من أنـواع الوسوسـة :
كيد الشيطان ومكره لا يقتصر على نوع واحد من الإغواء والإضلال والوسوسة؛بل له تفنن وتلون في إيقاع بني آدم في الضياع والضلال ؛ إذ غايته القصوى ،وطموحه الأعظم : هو أن يلقي الإنسان في الجحيم ،ويحرمه من جنات النعيم ،كما أخبر الله تعالى في كتابه الكريم ، فقال سبحانه
إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ(سورة فاطر،الآية:6 .
ووساوس الشيطان أنواع متكاثرة ،والمذكور هنا من أهمها ويدل المؤمن العاقل إلى التفطن لغيرها ، فنقول :
1- الوسوسة في العقيدة ، وأمور التوحيد :
الشيطان حريص على قذف سمومه في قلوب العباد ،وإيقاعهم في التكذيب والشك بما جاء في كتاب الله تعالى ، وسنة النبي r ، ومن حيل الشيطان وألاعيبه ببعض الناس أنه :
يزين لهم حبَّ الفضـول والسؤال عمَّا لا قِبَلَ لمخلوق أن يدركه عن الخالق عزَّ وجلَّ ؛فيلقي في قلوبهم السؤال عن ما هية الله تعالى ،ووجوده ،والحكمة من خلق الخلق ،وما يقضي به تعالى من تقدير الأشياء وإيجادها خيراً وشراً ،حلواً ومراً ،وقد يقع شيء من هذه الوسوسة لكثير من المؤمنين الصادقين ؛فيدفعونها بالاستعظام والإجلال ،وترى الواحد منهم متألماً من هذه الوسوسة العظيمة في ذات الخالق سبحانه ،متمنياً الخلاص منها،وأن لا تكون في خاطره أبداً ،بل البعض يفضل الموت ولا يدور في خَلَدِه مثل هذه الأفكار الرديئة ،والخيالات الفاسدة ،والتي ينفر منها الطبع السليم ،فكيف بقلوب التائبين،ومن عَقَدَ العزم وأجمع الهمة على فعل الخير والاستزادة منه .
وهذا النوع من الوسوسة : ليس مخصوصاً بزمان دون زمان ،وأناس دون أناس ،بل قد قذف الشيطان هذه الوساوس الخبيثة في قلوب أشرف الخلق بعد نبينا r وهم أصحابه -رضوان الله تعالى عنهم أجمعين- فقد جاء في الثابت عن سيد ولد آدم r جملة من الأحاديث تخبر عن وقوع شيء من هذه الوساوس للصحابة وغيرهم من الناس ، ومن ذلك :
ما أخـرجـه مسـلم في صحيـحه من حــديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال : قال لي رسول الله r : (لا يزالون يسألونك يا أبا هريرة حتى يقولوا : هذا الله فمن خلق الله ؟قال فبينا أنا في المسجد إذ جاءني ناسٌ من الأعراب فقالوا :يا أبا هريرة هذا الله فمن خلق الله ،قال: فأخذ حصى بكفه فرماهم، ثم قال : قوموا قوموا صدق خليلي ) .
وعند مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال : قال رسول الله r : (لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال: هذا خلق الله الخلق فمن خلق الله ؟ فمن وجد من ذلك شيئاً فليقل: آمنت بالله ورسله) .
وفي الصحيحين عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال : قال رسول الله r : ( يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا من خلق كذا؟ حتى يقول : من خلق ربك ؟فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينته ) .
وفي المسند لأحمد من حديث عائشة-رضي الله عنه-أنَّ رسول الله r قال : (إنَّ أحدكم يأتيه الشيطان فيقول: من خلقكَ؟ فيقول: الله ،فيقول:من خلق الله؟ فإذا وجد ذلك أحدكم فليقل: آمنت بالله ورسله، فإنَّ ذلك يذهب عنه ) صحيح .
وفي صحيح البخاري من طريق عبد الله بن عبد الرحمن سمعت أنس بن مالك-رضي الله عنه- يقول: قال رسول الله r :
(لن يبرح الناس يتساءلون حتى يقولوا : هذا الله خالق كل شيء فمن خلق الله؟) .
وفي لفظ مسلم عنه -رضي الله عنه- عن رسول اللهrقال :
(قال الله عزَّ وجلَّ: إنَّ أمتك لا يزالون يقولون: ما كذا ما كذا ؟حتى يقولوا هذا الله خلق الخلق ، فمن خلق الله ؟ ) .
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال:جاء ناس من أصحاب النبي r : ( فسألوه : إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به ، قال : وقد وجدتموه ؟قالوا :نعم ، قال ذاك صريح الإيمان ) .
وعند مسلم - أيضاً-عن عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه- قال: ( سُئل النبيrعن الوسوسة قال : تلك محض الإيمان ) .
وفي المسند لأحمد أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: جاء رجل إلى النبي rفقال يا رسول الله: ( إني أحدث نفسي بالحديث ؛لأن أخرَّ من السماء أحب إلى من أن أتكلم به قال: ذلك صريح الإيمان ) صحيح .
وعند ابن حبان في صحيـحه والبيهقي في الشعب،وابن منده في الإيمان عن علقمة عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-قال :
(سألْنَا رسولَ الله rعن الرجلِ يجد الشيءَ لو خرَّ من السماء فتخطفه الطير كان أحب إليه من أن يتكلم ، قال: ذاك صريح الإيمان ) .
وعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال سمعت رسول الله rيقول : (يوشك الناس أن يتساءلوا بينهم حتى يقول قائلهم:هذا الله خلَق الخلقَ، فمن خلق الله؟فإذا قالوا ذلك ، فقولوا : الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفؤاً أحد، م ليتفل عن يساره ثلاثاً، وليستعذ بالله من الشيطان )رواه النسائي في الكبرى وأبو داود وابن أبي عاصم في السنة حديث حسن.
وفي سنن أبي داود عن بن عباس-رضي الله عنهما- قال: جاء رجل إلى النبي r فقال: يا رسول الله إنَّ أحدنا يجد في نفسه يعرض بالشيء لأن يكـون حُمَمَة أحب إليه من أن يتكـلم به ،فقالr: (الله أكبر الله أكبر الله أكبر ، الحمد لله الذي رَدَّ كيده إلى الوسوسة ) صحيح .
وعند أبي داود-أيضاً- أنَّ أبا زُميل قال: سألت ابن عباس فقلت: ما شيء أجده في صدري؟!قال:ما هو؟ قلت:والله ما أتكلم به ،قال: فقال لي أشيء من شك ؟ قال: وضحك ، قال :
ما نجـا من ذلك أحـد،قال: حتى أنزل الله عزَّ وجلَّ : )فَإِنْ كُنْتَ فِي شَـكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَأُونَ الْكِتَابَ مِـنْ قَبْلِكَ(الآية-سورة يونس94.
قال:فقال لي: إذا وجدت في نفسك شيئاً، فقل: هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم ) حَسَنٌ .
قال الإمام النووي -رحمه الله- في شرحه مسلم (2/154-156): ( أما معاني الأحاديث وفقهها : فقولهr
ذلك صريح الإيمان،ومحض الإيمان)معناه:استعظامكم الكلام به هو صريح الإيمان، فإنَّ استعظام هذا ،وشدة الخوف منه، ومن ينطق به، فضلاً عن اعتقاده إنما يكون لمن استكمل الإيمان استكمالاً مُحققاً ،وانتفت عنه الريبة والشكوك .
وقيل معناه: أن الشيطان إنما يوسوس لمن أيس من إغوائه فينكد عليه بالوسوسة؛لعَجزه عن إغوائه ، وأما الكافر فإنه يأتيه من حيث شاء ،ولا يقتصر في حقـه على الوسوسة ،بل يتلاعب به كيف أراد.
فعلى هذا معنى الحديث: سبب الوسوسة محض الإيمان ،أو الوسوسة علامة محض الإيمان ،وهذا القول اختيار القاضي عياض .
وأما قوله r: (فمن وجد ذلك فليقل آمنت بالله ) وفى الرواية الأخرى : (فليستعذ بالله ولينته )فمعناه :الإعراض عن هذا الخاطر الباطل ، والالتجاء إلى الله تعالى في إذهابه.
قال الإمام المازري-رحمه الله-: ظاهر الحديث أنهr أمرهم أن يدفعوا الخواطر بالإعـراض عنها،والرد لها من غير استدلال ولا نظر في إبطالها .
قال : والذي يقال في هذا المعنى : أن الخواطر على قسمين :
فأما التي ليست بمستقرة،ولا اجتلبتها شبهة طرأت ،فهي التي تدفع بالإعراض عنها،وعلى هذا يحمل الحديث ، وعلى مثلها ينطلق اسم الوسوسة،فكأنه لمَّا كان أمـراً طارئاً بغير أصل دفع بغير نظرٍ في دليل إذ لا أصل له ينظر فيه .
وأما الخواطر المستقرة التي أوجبتها الشبهة: فإنها لا تدفع إلا بالاستدلال والنظر في إبطالها والله أعلم .
وأما قوله r: (فليستعذ بالله ولينته)فمعناه : إذا عرض له هذا الوسواس فليلجأ إلى الله تعالى في دفع شره عنه،وليعرض عن الفكر في ذلك ،وليعلم أن هذا الخاطر من وسوسة الشيطان ،وهو إنما يسعى بالفساد والإغواء ، فليعرض عن الإصغاء إلى وسوسته، وليبادر إلى قطعها بالاشتغال بغيرها ، والله أعلم ) .
وقال الإمام الخطابي-رحمه الله-في معالم السنن(8/12) شارحاً قول النبي r(ذاك صريح الإيمان ): ( معناه : أن صريح الإيمان هو الذي منعكم من قبول ما يلقيه الشيطان في أنفسكم والتصديق به ، وليس معناه :
أن الوسوسة نفسها صريح الإيمان، وذلك أنها إنما تتولد من فعل الشيطان وتسويله،فكيف يكون إيماناً صريحاً ؛لأنَّ الإيمان: التيقن، وأنَّ الإشارة إلى أنَّ ما وجدوه من الخوف من الله تعالى أن يعاقبهم على ما وقع في نفوسهم: هو محض الإيمان،إذ الخوف من الله تعالى ينافي الشك ) .
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية-رحمه الله- في المجموع(7/282) :
(حصول هذا الوسواس مع هذه الكراهة العظيمة له،ودفعه عن القلب هو من صريح الإيمان،كالمجاهد الذي جاءه العدو فدافعه حتى غلبه، فهذا أعظم الجهاد،و الصريح الخالص كاللبن الصريح ،وإنِّما صار صريحاً لمَّا كرهوا تلك الوساوس الشيطانية ودفعوها،فخلص الإيمان فصار صريحا ..
ولابدَّ لعامة الخلق من هذه الوساوس،فمن الناس من يجيبها فيصير كافراً أو منافقاً،ومنهم من قـد غمرَ قلبه الشهـوات والـذنوب ،فلا يحس بها إلا إذا طلب الدين، فإمَّا أن يصير مؤمناً، وإمَّا أن يصير منافقاً ،ولهذا يعرض للناس من الوساوس في الصلاة ما لا يعرض لهم إذا لم يُصلوا ؛ لأن الشيطان يكثر تعرضه للعبد إذا أراد الإنابة إلى ربه والتقرب إليه والاتصال به ،فلهذا يعرض للمصلين ما لا يعرض لغيرهم ،ويعرض لخاصة أهل العلم والدين أكثر مما يعرض للعامة، ولهـذا يوجد عند طلاب العلم والعبادة من
الوساوس والشبهات ما ليس عند غيرهم ؛لأنه لم يسلك شرع الله ومنهاجه ،بل هو مقبل على هواه في غفلة عن ذكر ربه ،وهذا مطلوب الشيطان بخلاف المتوجهين إلى ربهم بالعلم والعبادة ) .
وقال في موضع آخر(10/563) : (فالشيطان لمَّا قذف في قلوبهم وسوسةً مذمومةً تحرك الإيمان الذي في قلوبهم بالكراهة لذلك،والاستعظام له،فكان ذلك صريح الإيمان،ولا يقتضي ذلك أن يكون السبب الذي هو الوسوسة مأموراً به.
والعبد -أيضاً- قد يدعوه داع إلى الكفر أو المعصية فيستعصم ويمتنع ، ويـورثه ذلك إيماناً وتقوى ،وليس السبب مأموراً به،وقد قال تعالى
الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ%فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ(سورة آل عمران،الآية: 173-174 .
فهذا الإيمان الزائد والتوكل كان سبب تخويفهم بالعدو، وليس ذلك مشروعاً،بل العبد يفعل ذنباً فيورثه ذلك توبة يحبه الله بها،ولا يكون الذنب مأموراً به ،وهذا باب واسع جداً .. )(1).
__________
1-وانظر:المجموع(10/765و15/177و22/608) ودرء التعارض(3/117-118)وزاد المعاد(2/460)والفوائد(174)وفتح الباري(13/272-274) وصحيح ابن حبان (1/359)
وتفسير القرطبي(7/348)وعون المعبود(14/11) وغريب الحديث للخطابي (1/646) والنهاية(3/20) .